١٨ أبريل ٢٠١١

الآخــــــــر








الآخـــــــر

بعيدا .. وعلى الضفة الأخرى من النهر ، وحيث يقبع ذاك المنزل الأبيض وحيدا على تللك التلة الخضراء فتميزه العين بسهولة لما له من بياض لونه أو ربما لما أرادت وحلمت العين أن ترى لمنزل جميل طرازه مثله  .

يقبع الصمت والهدوء مترقبين ، فسيدته تضع مولودها الأول ، ولا أحد يعلم له أباً ، ولا أحد يعلم كيف لها أن تؤتى ثمرها من غير بذور فهى كانت دائما تعيش بمفردها منذ كانت طفلة تلهو بهذا المنزل ولازالت .
لكنها لما أشتد عودها وأصبحت غضة طيبة كثمرة مستعدة للقطف حلمت دوما بفارس الأحلام الذي سيأتى فيؤنس وحدتها وينادمها ، وينسج من فراغ النهار وأرق الليل ثوبها الأبيض لترتديه بكل ليالى العمر .
حلمت وتمنت أن يكون لها من أمير أحلامها طفل ولكن كيف ؟؟ فهى تعلم علم اليقين أنه أبدا لن يأتى الأمير .
أخذت تدعو ربها أن يرزقها طفلا ، فاستجاب الله لدعائها وبقدرته تحول طيف حلمها الى جنين يتحرك بداخلها فأضحى وليدها المنتظر التى تعيش لحظات مخاضه الآن .
صرخات صغيرة متقطعة تعلن بالبشرى وصول الوليد لساحة الدنيا ، تفحصته ملياً قبل أن تحيطه بيديها وتضمه إلى صدرها ، نعم كانت تود أن تتأكد أنه واقع وحقيقة وليس من طيف الخيال أو إسترجاع الأمانى .

سهرت على ذاك الوليد النورانى ليالٍ ليست بالقصيرة أو السهلة اليسيرة ، وأحاطته برعايتها القصوى ، أرضعته مع لبن ثديها بوجباته الأولى أسمى معانى التميز لما له من دقة الخصوصية بالنسبة لها ، أشبعته بغزارة التفرد كونه أول من قبض بفمه الصغير على حلماتها يرتشف الدفئ ممتزجا بحنانها قبل غذاء جسده الضئيل الصغير .

أيام تطوى أخريات وسنين تقفز حواجز الزمن ليصبح الوليد طفلا يعى حنان حضن أمه
فكم كانت سعادته لما تنظفه أمه من تراب عبثه الطفولى أو تغسل عنه زلاته وأخطائه التى لم يرتكبها بعد ، أو أرتكبها بعفوية وعدم إدراك .
أبدا لم يعلم كيف تكون الزوجة لزوجها ، ولكن لمس بعيناها دفئ المشاعر وحنان وحب الأم وصخب الأصدقاء وحزم وتفانى الأب الذى لم يراه .

كم كان يطير فرحا وهو يركض ويجرى ويلعب على تلك العشبة الخضراء الفسيحة داخل أسوار منزله الأبيض ، بينما تنظر إليه أمه بسعادة وفرح ، وهي ترى زرعها يكبر ويكبر ويزهر أمام عيناها ، فهو أبن خيالها وأبن قلبها أو هكذا لقنته تلك المفاهيم التى أعتنقها وآمن بها عن ظهر قلب .
لما رأى من نور جديد يضئ كيانه ولمحات من فيض حب أمه ولمسات لم يختبرها من قبل وكأنها لمسات جنيات البحر المسحورات اللاتى يحولن كل ما حولهن لعالم ضاحك سعيد ، هكذا قرأ وهكذا آمن .

آمن بأن أمه هى النهر الخالد الذى لم يشرب أحدا منه سواه
آمن بأن نظرة أمه هى آيه صدق وتميمة أمل
آمن بأن كلمة أمه حروفها من نور تضئ كل عتماته
آمن بأن حب أمه هو الجنة التى لم ولن يدخلها غيره
آمن بأن بيته أمه أبيض ....

ولكن لماذا ترتدى أمى تلك القلادة حول رقبتها ولا تفارقها أبدا ، ولماذا تمنعه بل تنهره لو حاول الإقتراب من تلك الناحية بحديقة المنزل الأبيض .

أبدا لم يدرك السبب ولكن أبدا ماتلاشى ذلك الخاطر من داخله بل زاد طفوليته وعفويته إصرارا على تقصى الأمور ليقف على خبرها ، فيعلم مالا يدرى عن هدف لا يعلمه ، قد يكون حسه الفطرى ، أو عقله الطفولى الرجولى ، ومن الجائز أيضا أن يكون حبا فى الشقاء  بلقاء المجهول ، لكن حدسه يخبره لكن أن هناك شيئ ما لازال كامن بعد .

قرر طفلها المدلل الدخول للمنطقة المحرمة ، ليقوم ببعثته الإستكشافية معتليا مطية إصراره  بغفلة من غياب أمه .
قرر أن يدفع الباب ولايترك للظنون مستقر ، وهاهو وقد فعل ما إنتوى ليجد بصدارة المكان شاهد قبر كتب عليه ( كنت هنا ذات يوم ) .

مادت دنياه من تحته وهو لايزال منتعلا قدميه ، غابت الشمس بضحى النهار ، وهطلت أمطار التعرق شتاءا ، سالت روحه مع دم عينيه ، تهاوى كجبل دكه الإعصار ، جف كبئر نضب ماؤها الزلال ، تاه بمكانه .

تماسك قليلا .. ليسرق من الهواء الذى فارق المكان مايقيم جسده ، تسابقت الخواطر لرأسه كخيول وحشية تلتهم الأرض سعيا إليه آتيةٌ من حكايا الرعب ومفزع الأساطير .
متسائلا بكل جوارحه .. معتصرا ثمرات قدراته على التذكر والتفكر والتدبر !!!

هل هو سفاح طيش نزوة رخيصة لأمه إله السمو ؟
هل يسأل أمه أغلى ماعنده ويتعرض لنقماتها وعقابها ؟
هل يواجهها ويتحمل عقبات فعله وردات فعلها وإجاباتها المجهولة ؟
هل يصمت ويكفيه أنه يحيا بقرب أمه ؟
هل يتلمس لها الأعذار لِما يعلم عن عذابات الوحدة وكم هى قاسية سياط الرغبة على جسد مثخنٌ بالحرمان والحاجة ؟
هل يغضب من نفسه لتجاوزه الخطوط الحمر عن غير عمد ؟
هل يثور عليها لأنها أعطته مفتاح الجنة قانعة إياه بأنه المفتاح الوحيد وأحتفظت لنفسها بنسخ أخرى تهبها من تشاء ؟
هل يكفر بها وهو لا يعرف بدنياه مصادرا للتشريع غيرها ؟
هل يهجر منزلها الأبيض بعد أن تغير لونه لما راح نور الشمس ؟
هل رآها نوارنية أكثر مما ينبغى ؟
هل كان أغبى مما يظن .. أم كانت أكثر حنكة عما توقع ؟
هل هى ملاك برئ أم شيطان قاسى أم آدمى ضل الصواب ؟
ترى هل هى مثلهن جميعا ؟

لكن هيهات وإلا أن يغفر لها خطاياها النافذات فيه .. فهى لا تزال بقلبه أم عمره الذى بدأ يوم قبلته لأول مرة ، وحديث نفسه الذى لن ينساه مادام حياً .

بعد أن أيقن بأن مكانه ليس هنا ،  نعم ليس بمنزلها الأبيض الشاهق بنصاع بياضه ، ولا على تلك العشبة الخضراء والتى قد تحوى قبورا لآخرين .

بإنكسار وحزن يبرقان بعينَى طفل لم يحصل على ثوب العيد ككل الأطفال ، بدأ ينبش الأرض بأظافره ليصنع قبرا لنفسه ، بأرض ليست ضمن حدود مساحات البياض التى أغشت عيناه طويلا . قبر من بياض آخر غير الذى إختبره معها ، بياض يصلح لأمثاله من ضعاف البصيرة .

لملم كل ماتبقى من ذكريات بمنزلها مع قسمات وجه تلك المرأة التى عاش برحمها شهورا ، وسكن تحت جلدها ، وتنفس زفيرها ، ويطيب بضحكاتها ، ويتيه بعذب حكيها ، فتتمرد كل حواسه لنظرة إشتهاء فيها ، فكان أميرها المتوج بشرعية إستمدها من كلمات الخدر تنساب من فاها فتفقده الحذر .
ليمزج الكل معا فيصنع منها حروف تكون شاهد على زمنه ، وليس شاهد قبر ليتذكره أحد , وإنما الشاهد الذى لا يغفل ولا ينسى ليذكره دوما  قائلاً

نعم كانت وستظل حبيبتك ..  لكنك لست وحـــــدك حبيبهـــــــا .
















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق